وصيّة أبي الوليد الباجي لولَديه "منهاج تَربويّ متكامل" !!!

 


قال الشيخ الفقيه الإمام الحافظ أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي الباجي رضي الله عنه ورحمه:

بسم الله الرحمن الرحيم

صلى الله على سيدنا محمد وآله

يا بَنِي، هداكما الله، وأرشدكما، ووفقكما، وعصمكما، وتفضل عليكما بخير الدنيا والآخرة، ووقاكما محذورهما برحمته.


إنكما لما بلغتما الحد الذي قَرُبَ فيه تَعَيُّنُ الفروض عليكما، وتَوَجَّه التكليفُ إليكما، وتحققْتُ أنكما قد بلغتما حدَّ مَن يفهم الوعظ، ويتبين الرشد، ويَصلُح للتعليم والعلم؛ لَزِمَني أن أُقَدِّم إليكما وصيتي، وأُظْهِرَ إليكما نصيحتي؛ مخافةَ أنْ تَخْتَرِمُني مَنِيَّةٌ ولم أبلغ مباشرةَ تعليمِكما وتدريبكما، وإرشادِكما وتفهيمكما.


فإنْ أَنْسَأَ اللهُ - تعالى - في الأجل فسيتكرَّر النصح والتعليم، والإرشاد والتفهيم، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون، بيده قلوبُكما ونواصيكما.


وإنْ حالَ بيني وبين ذلك ما أتوقعه وأظنه من اقتراب الأجل وانقطاع الأمل؛ ففيما أرسمه من وصيتي، وأُبَيِّنُه من نصيحتي، ما إنْ عملتما به ثَبَتُّما على منهاج السلف الصالح، وفُزْتُما بالمتجر الرابح، ونلتما خير الدنيا والآخرة. وأستودع الله دينكما ودنياكما، وأستحفظه معاشكما ومعادكما، وأفوض إليه جميع أحوالكما، وهو حسبي فيكما ونعم الوكيل.


واعلما أن لا أحد أنصحُ مني لكما، ولا أشفق مني عليكما، وأنه ليس في الأرض مَن تَطِيب نفسي أنْ يَفْضُلَ عليَّ غيرُكما، ولا أرفع حالًا في أمر الدين والدنيا سواكما.


وأقل ما يُوجِب ذلك عليكما أن تُصِيخا إلى قولي، وتتَّعظا بوعظي، وتتفهَّما إرشادي ونصحي، وتتيقَّنا أني لم أَنْهَكُما عن خير، ولا أمرتكما بشر، وتسلكا السبيل التي نهجتها، وتمتثلا الحال التي مثلتها.


واعلما أننا أهل بيت لم يَخْل بفضل الله ما انتهى إلينا منه من صلاحٍ وتَدَيُّنٍ، وعفافٍ وتصاونٍ.


فكان بنو أيوبَ بنِ وارثٍ - عفا الله عنا وعنهم أجمعين -: جدنا سعد.


ثم كان بنو سعد: سليمان، وخلف، وعبد الرحمن، وأحمد.


وكان أوفر الصلاح والتديُّن والتَّوَرُّع والتعبُّد في جدكم خلف؛ كان مع جاهه وحاله واتساع دنياه منقبضًا عنها، متقللاً منها، ثم أقبل على العبادة والاعتكاف، إلى أن تُوفي رحمه الله.


ثم كان بنو خلف عمَّاكُما: عليٌّ وعُمرُ، وأبوكما سليمانُ، وعَمَّاكُما: محمدٌ وإبراهيمُ، فلم يكن في أعمامكما إلا مشهورٌ بالحج والجهاد، والصلاح والعفاف، حتى توفي منهم على ذلك، عفا الله عنا وعنهم.


وكأنني لاحقٌ بهم، ووارد عليهم، ويصير الأمر إليكما؛ فلا تأخذا غيرَ سبيلِهم، ولا ترضيا غير أحوالهم، فإن استطعتما الزيادة فلأنفسكما تمهدان، ولها تبنيان، وإلا فلا تقصرا عن حالهم.

 

وأول ما أوصيكما به ما أوصى به إبراهيمُ بنيه ويعقوبُ: ﴿ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [ سورة البقرة: 132].


وأنهاكما عما نهى عنه لقمانُ ابنَه وهو يعظه: ﴿ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [ لقمان: 13].

وأؤكد عليكما في ذلك وصيتي وأكررها؛ حرصًا على تعلقكما وتمسككما بهذا الدين الذي تفضل الله - تعالى - علينا به، فلا يستزلكما عنه شيءٌ من أمور الدنيا وابذلا دونه أرواحكما، فكيف بدنياكما؟ فإنه لا ينفع خيرٌ بعدَه الخلودُ في النار، ولا يضر ضَيْرٌ بعده الخلودُ في الجنة. ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [ آل عمران: 85].


فإنْ متُّما على هذا الدين الذي اصطفاه الله واختاره وحرم ما سواه؛ فأرجو أن نلتقي حيث لا نخاف فُرقة، ولا نتوقع إزالة.


ويعلم الله - تعالى - شوقي إلى ذلك وحرصي عليه، كما يعلم إشفاقي من أن تَزِلَّ بأحدكما قدمٌ، أو تعدل به فتنة، فيَحِلَّ عليه من سخط الله - تعالى - ما يُحِلُّه دارَ البوار، ويُوجِب له الخلود في النار، فلا يلتقي مع المؤمنين من سَلَفه، ولا ينفعه الصالحون من آبائه، يوم ﴿ لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [ لقمان: 33].


وتنقسم وصيتي لكما قسمين:

• فقسم فيما يلزم من أمر الشريعة، أُبَيِّنُ لكما منه ما يجب معرفته، ويكون فيه تنبيهٌ على ما بعده.

• وقسم فيما يجب أن تكونا عليه في أمر دنياكما، وتجريان عليه بينكما.

 

[القسم الأول]

فأما القسم الأول: فالإيمان بالله - عز وجل -، وملائكته، وكُتُبه، ورسله، والتصديق بشرائعه؛ فإنه لا ينفع مع الإخلال بشيء من ذلك عملٌ.


والتمسك بكتاب الله تعالى جَدُّه، والمثابرة على تحفظه وتلاوته، والمواظبة على التفكر في معانيه وآياته، والامتثال لأوامره، والانتهاء عن نواهيه وزواجره.


رُوِي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله - تعالى -، وسنتي، عضوا عليها بالنواجذ)).


وقد نصح لنا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وكان بالمؤمنين رحيمًا، وعليهم مشفقًا، ولهم ناصحًا؛ فاعملا بوصيته، واقبلا من نصحه، وأَثْبِتَا في أنفسكما المحبةَ له، والرضا بما جاء به، والاقتداءَ بسنته، والانقياد له، والطاعة لحكمه، والحرص على معرفة سنته وسلوك سبيله؛ فإن محبته تقود إلى الخير، وتُنجي من الهلكة والشر.


وأشرِبَا قلوبَكما محبةَ أصحابه أجمعين، وتفضيل الأئمة منهم الطاهرين: أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، رضي الله عنهم، ونفعنا بمحبتهم.


وأَلْزِمَا أنفسَكما حُسْنَ التأويل لما شجر بينهم، واعتقادَ الجميل فيما نُقِل عنهم؛ فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحُد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدِهم ولا نَصِيفَه)).


فمَن لا يبلغ نصيف مده مِثْلُ أُحُدٍ ذهبًا، فكيف يُوَازَنُ فضلُه، أو يُدْرَك شَأْوُه؟! وليس منهم - رضي الله عنهم - إلا مَن أنفق الكثير.


ثم تفضيل التابعين ومَن بعدهم من الأئمة والعلماء رحمهم الله، والتعظيم لحقهم، والاقتداء بهم، والأخذ بهديهم، والاقتفاء لآثارهم، والتحفظ لأقوالهم، واعتقاد إصابتهم.


وإقام الصلاة؛ فإنها عمود الدين، وعماد الشريعة، وآكد فرائض الملة، في مراعاة طهارتها، ومراقبة أوقاتها، وإتمام قراءتها، وإكمال ركوعها وسجودها، واستدامة الخشوع فيها، والإقبال عليها، وغير ذلك من أحكامها وآدابها في الجماعات والمساجد؛ فإن ذلك شعار المؤمنين، وسَنن الصالحين، وسبيل المتقين.


ثم أداء زكاة المال، لا تُؤخَّر عن وقتها، ولا يُبخَل بكثيرها، ولا يُغفل عن يسيرها.


وَلْتُخْرَجْ من أطيب جنس، وبأوفى وزن؛ فإن الله تعالى أكرم الكرماء، وأحقُّ مَنِ اخْتِير له.


ولتُعطَ بطِيب نفسٍ، وتيقُّنٍ أنها بركة في المال وتطهير له، وتُدفع إلى مستقحها دون محاباة ولا متابعة هوى ولا هوادة.


ثم صيام رمضان؛ فإنه عبادة السر، وطاعة الرب.


ويجب أن يُزَاد فيه من حفظ اللسان، والاجتهاد في صالح العمل، والتحفُّظ من الخطإِ والزلل، ويُراعى في ذلك لياليه وأيامُه، ويتبع صيامه قيامه. وقد سُنَّ فيه الاعتكافُ.


ثم الحج إلى بيت الله الحرام مَن استطاع إليه سبيلاً؛ فهو فرض واجب.


وقد رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (( الحج المبرور ليس له جزاء عند الله إلا الجنة )).


ثم الجهاد في سبيل الله إن كانت بكما قدرة عليه، أو عون مَن يستطيع إن ضعفتما عنه.


فهذه عُمُد فرائض الإسلام، وأركان الإيمان. حافظا عليها، وسابقا إليها؛ تحوزا الخير العظيم، وتفوزا بالأجر الجسيم.


ولا تُضَيِّعا حقوق الله فيها، وأوامره بها، فتهلكا مع الخاسرين، وتندما مع المفرِّطين.


واعلما أنكما إنما تصلان إلى أداء هذه الفرائض والإتيان بما يلزمكما منها - مع توفيق الله لكما - بالعلم الذي هو أصل الخير، وبه يُتَوَصَّل إلى البر، فعليكما بطلبه؛ فإنه غنًى لطالبه، وعِزٌّ لحامله.


وهو مع هذا السببُ الأعظم إلى الآخرة، به تُجتنَب الشبهاتُ، وتَصِحُّ القُرُباتُ.


فكم من عاملٍ يُبعده عملُه من ربه، ويُكْتَب ما يَتقرب به من أكبر ذنبه، قال الله - تعالى -: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [الكهف: 103-104].


وقال - تعالى -: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9].


وقال - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 28].


وقال - تعالى -: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [ المجادلة: 11].


والعلم سبيل لا يُفضي بصاحبه إلا إلى السعادة، ولا يُقَصِّر به عن درجة الرفعة والكرامة.


قليلُه ينفع، وكثيرُه يُعْلِي ويرفع.


كَنْزٌ يزكو على كل حال، ويَكثُر مع الإنفاق، ولا يَغصبه غاصب، ولا يُخاف عليه سارق ولا محارِب.


فاجتهدا في طلبه، واستعذبا التعب في حفظه، والسهر في دَرْسه، والنصب الطويل في جمعه.


وواظبا على تقييده وروايته، ثم انتقلا إلى فهمه ودرايته.


وانظرا أيَّ حالةٍ من أحوال طبقات الناس تختاران، ومنزلةَ أيِّ صنفٍ منهم تُؤْثِرَان: هل تريانِ أحدًا أرفعَ حالاً من العلماء، وأفضلَ منزلةً من الفقهاء؟! يحتاج إليهم الرئيسُ والمرؤوسُ، ويَقتدي بهم الوضيعُ والنفيسُ. يُرْجَع إلى أقوالهم في أمور الدنيا وأحكامها، وصحة عقودها وبِياعاتها، وغير ذلك من تصرفاتها. وإليهم يُلْجَأ في أمور الدين، وما يلزم من صلاة وزكاة وصيام وحلال وحرام. ثم مع ذلك السلامةُ من التبعات، والحظوة عند جميع الطبقات.


والعلمُ ولايةٌ لا يُعزَل عنها صاحبُها، ولا يَعْرَى من جمالها لابسُها. وكل ذي ولاية وإنْ جَلَّتْ، وحرمةٍ وإنْ عَظُمَتْ، إذا خرج عن ولايته، أو زال عن بلدته، أصبح من جاهه عاريًا، ومن حاله عاطلاً، غيرَ صاحب العلم؛ فإن جاهه يصحبه حيث سار، ويتقدمه إلى جميع الآفاق والأقطار، ويبقى بعده في سائر الأعصار.


وأفضل العلوم علم الشريعة، وأفضل ذلك لمن وُفِّقَ: أن يُجَوِّد قراءة القرآن، ويحفظَ حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويعرفَ صحيحه من سقيمه، ثم يقرأ أصول الفقه، فيتفقه في الكتاب والسنة، ثم يقرأ كلام الفقهاء، وما نُقِلَ من المسائل عن العلماء، ويَدْرَب في طُرُق النظر، وتصحيح الأدلة والحجج؛ فهذه الغاية القصوى، والدرجة العليا.

 

ومن قصر عن ذلك فليقرأ بعد تحفُّظِ القرآن وروايةِ الحديث المسائلَ على مذهب مالكٍ - رحمه الله -؛ فهي إذا انفردت أنفعُ من سائر ما يُقْرَأُ مفردًا في باب التفقه.


وإنما خصصنا مذهب مالك رحمه الله؛ لأنه إمامٌ في الحديث وإمامٌ في الرأي، وليس لأحد من العلماء - ممن انبسط مذهبُه، وكَثُرَتْ في المسائل أجوبتُه - درجةُ الإمامة في المعنيين، وإنما يشاركه في كثرة المسائل وفروعها، والكلام على معانيها وأصولها: أبو حنيفة، والشافعي، وليس لأحدهما إمامةٌ في الحديث، ولا درجة متوسطة[3].


وإياكما وقراءةَ شيء من المنطق وكلام الفلاسفة؛ فإن ذلك مبنيٌّ على الكفر والإلحاد، والبعد عن الشريعة والإبعاد.


وأُحَذِّركما من قراءتها ما لم تقرءا من كلام العلماء ما تقويان به على فهم فساده، وضعف شُبَهه، وقلة تحقيقه؛ مخافةَ أن يسبق إلى قلب أحدكما ما لا يكون عنده من العلم ما يقوى به على رده؛ ولذلك أنكر جماعة العلماء المتقدمين والمتأخرين قراءةَ كلامهم لمن لم يكن من أهل المنزلة والمعرفة به؛ خوفًا عليهم مما خوفتكما منه.


ولو كنت أعلم أنكما تبلغان منزلة الْمَيْز والمعرفة والقوة على النظر والمقدرة لحضضتكما على قراءته، وأمرتكما بمطالعته؛ لتحققا ضعفَه، وضعفَ المعتقِد له، وركاكةَ المغتر به، وأنه من أقبح المخاريق والتمويهات، ووجوهِ الحيل والخزعبلات، التي يغتر بها مَن لا يعرفها، ويستعظمها من لا يميزها[4].


ولذلك إذا حقق من يعلم عند أحد منهم وجده عاريًا من العلم، بعيدًا عنه، يدَّعي أنه يكتم علمه، وإنما يكتم جهله وهو ينم عليه، ويروم أن يستعين به وهو يعين عليه.


وقد رأيت ببغدادَ وغيرِها مَن يدَّعي منهم هذا الشأن مستحقَرًا مستهجنًا مستضعفًا، لا يناظره إلا المبتديء، وكفاك بعلم صاحبه في الدنيا مرموق مهجور، وفي الآخرة مدحور مثبور.


وأما من يتعاطى ذلك من أهل بلدنا فليس عنده منه إلا اسمه، ولا وصل إليه إلا ذكره.


وعليكما بالأمر بالمعروف، وكونا من أهله، وانهيا عن المنكر، واجتنبا فعله.


وأطيعا مَن وَلَّاه الله أمرَكما، ما لم تُدعيا إلى معصية فيجب أن تمتنعا منها، وتبذلا الطاعة فيما سواها.


وعليكما بالصدق؛ فإنه زَيْن، وإياكما والكذبَ؛ فإنه شَيْن.


ومَن شُهِرَ بالصدق فهو ناطقٌ محمود، ومَن عُرِف بالكذب فهو ساكت مهجور مذموم.


وأقل عقوبات الكذاب ألا يُقبل صِدْقُه، ولا يتحقق حقُّه.


وما وصف الله - تعالى - أحدًا بالكذب إلا ذامًّا له، ولا وصف الله - تعالى - أحدًا بالصدق إلا مادحًا له، ومرفعًا به.

 

وعليكما بأداء الأمانة، وإياكما والإلمامَ بالخيانة.


أَدِّيَا الأمانة إلى من ائتمنكما، ولا تخونا من خانكما، وأوفيا بالعهد؛ ﴿ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴾ [ الإسراء: 34].


أوفيا الكَيْل والوزن؛ فإن النقص فيه مَقْتٌ، لا يُنقص المالَ، بل ينقص الدين والحال.


وإياكما والعونَ على سفك دمٍ بكلمةٍ، أو المشاركةَ فيه بلفظةٍ؛ فلا يزالُ الإنسان في فُسْحَة من دينه ما لم يغمس يده أو لسانه في دم امرىء مسلم. قال الله - تعالى -: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [ النساء: 93].


واجتناب الزنا من أخلاق الفضلاء، ومواقعته عار في الدنيا وعذاب في الأُخرى؛ قال الله - تعالى -: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ [ الإسراء: 32].


وإياكما وشُربَ الخمر؛ فإنها أم الكبائر، والْمُجَرِّئَةُ على المآثم، وقد حرَّمها الله - تعالى - في كتابه العزيز؛ فقال عَزَّ مِن قائل: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [ المائدة: 91].


وحسبكما بشيء يُذهب العقلَ، ويُفسد اللُّب.


وقد تركها قومٌ في الجاهلية تكرُّمًا. فإياكما ومقاربتَها، والتدنُّسَ برجسها، وقد وصفها الله - تعالى - بذلك، وقرنها بالأنصاب والأزلام؛ فقال عَزَّ مِن قائل: ﴿ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [ المائدة: 90].


فبيَّن - تعالى - أنها من عمل الشيطان، ووصفها بالرجس، وقرن الفلاح باجتنابها.


فهل يستجيز عاقلٌ يُصَدِّق البارىءَ في خبره - تبارك اسمُه -، ويعلم أنه أراد الخير لنا فيما حذرنا عنه منها، أنْ يقربها، أو يتدنَّسَ بها؟!

 

وإياكما والربا؛ فإن الله - تعالى - قد نهى عنه، وتوعَّد بمحاربة مَن لم يَتُبْ منه؛ فقال عز مِن قائلٍ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [ البقرة: 278-279].


وقال - تعالى -: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [ البقرة: 276].

 

ولا تأكلا مالَ أحدٍ بغير حق.


وإياكما ومالَ اليتيم؛ فقد قال - عز وجل -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [ النساء: 10].

 

وعليكما بطلب الحلال، واجتنابِ الحرام. فإنْ عَدِمتما الحلال فالجئا إلى المتشابه.

 

وإياكما والظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، والظالم مذموم الخلائق[5]، مُبَغَّض إلى الخلائق[6].

 

وإياكما والنميمةَ؛ فإن أول مَن يَمْقُت عليها مَن تُنقَل إليه. وقد رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا يدخل الجنة قَتَّاتٌ)).


وإياكما والحسد؛ فإنه داءٌ، يهلك صاحبه، ويعطب تابعه[7].

 

وإياكما والفواحشَ؛ فإن الله - تعالى - حرَّم ما ظهر منها وما بطن، والإثمَ والبغيَ بغير الحق.

 

وإياكما والغِيبةَ؛ فإنها تُحبط الحسناتِ، وتُكثِّر السيئاتِ، وتُبعد من الخالق، وتُبَغِّض إلى المخلوق.

 

وإياكما والكِبْرَ؛ فإن صاحبه في مَقْت الله متقلِّبٌ، وإلى سَخَطه مُنْقَلِب.


وإياكما والبخل؛ فإنه لا داء أدوأ منه. لا تَسْلَم عليه ديانةٌ، ولا تتم معه سيادةٌ.

 

وإياكما ومواقفَ الخزي.

 

وكل ما كرهتما أن يَظهر عليكما فاجتنباه، وما علمتما أن الناس يَعِيبونه في الملإِ، فلا تأتياه في الخلاءِ.

 

فإنْ بلغ أحدُكما أنْ يسترعيه الله أُمَّةً بحُكم أو فتوى فليمتثَّلِ العدلَ جهده، ويجتنب الجَوْر وغَدْرَه؛ فإن الجائر مضادٌّ لله في حُكمه، كاذبٌ عليه في خبره، مُغَيِّرٌ بشريعته، مخالف له في خليقته. قال الله - تعالى -: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 47].


وقد رُوِيَ أن الخلق كلَّهم عِيالُ الله، وأن أحب الخلق إلى الله أحوطهم لعياله[8].


ورُوِيَ: ((ما امرؤٌ استُرْعِي رعية فلم يَحُطْها بنصيحةٍ إلا حرَّم الله - تعالى - عليه الجنةَ)).


وإياكما وشهادةَ الزور؛ فإنها تَقطع ظَهر صاحبها، وتُفسد دِين مُتَقَلِّدِها، وتُخلد قُبحَ ذِكرِه، وأولُ مَن يَمْقُتُه ويَنمُّ عليه المشهودُ له.


وإياكما والرَُِّشوةَ؛ فإنها تُعمي عين البصير، وتَحط قدر الرفيع.


وإياكما والأغاني؛ فإن الغناء يُنبت الفتنة في القلب، ويولد خواطر السوء في النفس.


وإياكما والشِّطْرَنْجَ والنَّرْدَ؛ فإنه شغل البطالين، ومحاولة المترفين، يفسد العمر، ويشغل عن الفرض. ويجب أن يكون عمركما أعز عليكما وأفضل عندكما من أن تقطعاه بمثل هذه السخافات التي لا تجدي، وتفسداه بهذه الحماقات التي تضر وتردي.


وإياكما والقضاء بالنجوم والتكهُّن؛ فإن ذلك لمن صدَّقه مخرِجٌ عن الدين، ومُدْخِلٌ له في جملة المارقين.


وأما تعديل الكواكب، وتبيين أشخاصها، ومعرفة أوقات طلوعها وغروبها، وتعيين منازلها وبروجها، وأوقات نزول الشمس والقمر بها، وترتيب درجاتها للاهتداء به، وتعرُّف الساعات وأوقات الصلوات بالظلال وبها؛ فإنه حَسنٌ، مُدْرَكٌ ذلك كله بطريق الحساب مفهومٌ، قال الله - تعالى -: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ [ الأنعام: 97].


وقال عَزَّ مِن قائلٍ: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [ يونس: 5].

المصدر: كتاب النصيحة الولدية 

تعليقات